recent
أحدث المواضيع

السفير معصوم مرزوق يكتب : أداب السلوك فى مخاطبة الملوك

الحجم


 أداب السلوك فى مخاطبة الملوك !

لأسباب ليس هذا مجال ذكرها، وجدت نفسى أعود خلال الأيام السابقة لقراءة كتاب سبق لى أن قرأته منذ سنوات، كتبه كريم ثابت المستشار الصحفى لملك مصر السابق والأخير الملك فاروق تحت عنوان «عشر سنوات مع فاروق»، وهو يعطى فكرة عامة عن أجواء العمل فى البلاط الملكى خلال الفترة من 1942 إلى قيام الثورة عام 1952، وبطبيعة الحال لا تشتمل على كل الأحداث التى شهدتها تلك السنوات الساخنة سواء فى القصر الملكى أو فى مصر، ولكنها تعطى انطباعاً عاماً عن حالة التعفن التى كانت الحياة السياسية فى مصر قد انحطت إليها، و«بورتريه» عن قرب لآخر ملوك أسرة محمد على.

 وتمتلئ صفحات الكتاب بصور مخجلة :

لحياة القصر وساكنيه، وكذلك لشخصيات سياسية عديدة تمارس النفاق والكذب كى تحتفظ بقربها من وهج السلطة، وتفصيلات عن غراميات الملكة نازلى أم الملك فى مخادع القصر مع عشيقها أحمد حسنين، وانحرافات الملك الشاب الذى وجد اليوم من يحاول أن يغسل سمعته وسيرته، لولا وجود مثل هذه الشهادات من رجال عاشوا داخل القصر، وشهدوا مخازى حكم مصر عن قرب . يشرح كريم ثابت ما أسماه «الدستور غير المكتوب» بين الحكومة والقصر، والذى كان له من الناحية العملية قوة أكبر من قوة القانون ومن قوة الدستور»، ويتلخص فى أن الحكومة لا تعمل عملاً واحداً قبل أن تخاطب القصر فى موضوعه وتستطلع رأى الملك فى شأنه، ويعدد الكتاب أمثلة على تلك الأعمال التى يتضح أنه تشتمل على كل جليل وتافه من أعمال الحكومة، حتى مواعيد تغيير ملابس رجال الجيش والبوليس صيفاً وشتاء.. 

ويقول كريم ثابت: 

«لما عينت مستشاراً صحفياً فى مايو 1946 استرعى انتباهى فى المذكرات التى كان الديوان الملكى يرفعها إلى الملك أمران : الأول : خلو أغلبها من كل رأى شخصى، أو اقتراح، أو حل، يستطيع الملك أن يستنير به فى قراره أو فى تعليماته.. وذلك «تجنباً للمسئولية وفراراً منها وخوفاً من ألا يصادف الرأى قبولاً حسناً عند الملك.. فقد كانوا يحرصون على ألا يتقدموا إليه بفكرة ما إلا إذا اعتقدوا أنه سيرتاح إليها أو استشعروا أنه سيرحب بها». أما الأمر الثانى: فهو أن معظم هذه المذكرات كان يعود من عند الملك وعليها «تأشيراته» بخط «الشمرشجية» لا بخطه هو .. وليس تحت هذه التأشيرات أو إلى جانبها ، إمضاء يدل على أن الملك قرأ التأشيرة .. أو راجعها!.. ( المعروف أن كل وظيفة الشمرشجية كانت هى العناية بملابس الملك!!)..

 ويتضح مما سبق :

أن مصر فى النهاية كان يحكمها مجموعة من الشمرشجية، هم الذين يقرأون المذكرات التى يرفعها الوزراء (والخالية من شجاعة إبداء الرأى) ، ثم يضعون تأشيراتهم عليها.. وهل يحتاج ذلك إلى أى تعليق؟!.. وهناك واقعة جديرة بالتأمل يرويها كريم ثابت عن دور الصحفى مصطفى أمين، فيقول مساء الأربعاء 16 يوليو 1952، اتصل بى الأستاذ مصطفى أمين بالتليفون، وقال إنه يروم مقابلتى لأمر خطير، فرجوت منه أن يحضر إلى فوراً .. ولما دخل على أخبرنى أن الحالة فى الجيش مضطربة ة وأطلعنى مصطفى أمين على منشور من المنشورات السرية التى يصدرها الضباط الأحرار من وقت إلى آخر، فكان أول منشور من نوعه أطلعت عليه.. واتفقت مع مصطفى أمين على ألا يصحبنى عند ذهابى إلى وزارة الداخلية فى تلك الساعة من الليل، منعاً للقيل والقال ، بل يوافينا فى اثناء اجتماعنا كأنه جاء مصادفة لمقابلة وزير الداخلية لعمل صحفى... إلخ إلخ.. وهذه الواقعة تبين بجلاء دور «المخبر الصحفى» أو «المخبر فقط».. و.. وأيضاً بدون تعليق !! .. 

والكتاب يمتلئ بحواديت :

عن شخصيات كبيرة لعبت أدواراً خطيرة فى حياة مصر، وهى حواديت لا تبتعد كثيراً عن «حواديت البلاط » فى أى قصر من القصور، وهى فى مجملها يصعب تلخيصها، فهى خليط مخجل ومنفر، تعطى صورة مزرية لسياسيين أو أدعياء سياسة يلهثون وراء كراسى الحكم بأى وسيلة وبأى ثمن بما فى ذلك الشرف ، ورغم أن الكتاب لا يشتمل على كل الأحداث التى شهدتها مصر خلال تلك الفترة، إلا أنه كان كافياً لإسكات كل أولئك الذين يتغنون بما يسمى «الحياة الديمقراطية قبل الثورة»، فلم تكن تلك الحياة - كما يصورها الكتاب - سوى العار متجسداً، فالجميع - الجميع بلا إستثناء - يقدمون فروض الذل والهوان لدى السفارة البريطانية والقصر، والجميع بلا استثناء يتاجرون بقضايا الوطن المصيرية لتحقيق مصالحهم الذاتية الأنانية الضيقة، والجميع بلا استثناء يدغدغون غدة الاستعلاء والغرور لدى الحاكم الفاسد ،

 وطبقاً لما جاء فى الكتاب : 

 فلم يكن فاروق عندما تولى الحكم شاباً على ذلك القدر من الفساد، ولكن تسبب فى فساده كل من أحاط به من مستشارين ووزراء، فقد زينوا له أنه لا ينطق عن الهوى، وإنما هو وحى يوحى، ورشحوه خليفة للمسلمين، بل وذهب البعض إلى نسبته لبيت الرسول الكريم . لا شك أن لهذا الكتاب ما لمثله من كتب المذكرات والسير الذاتية من عيوب الانحياز إلى الذات ، وضيق زاوية النظر، ولكنه يبقى وثيقة مهمة من شاهد عاش ومارس الحكم إلى جوار آخر ملوك مصر، وتبقى فائدته عبرة ومثلاً لأهل الحكم والسلطة فى كل زمان ومكان، فمهما عاش الإنسان فإنه يموت، ولن تبقى منه سوى سيرته، فقد عاش فاروق ملكاً لمدة خمسة عشر عاماً، ولكنه حتى الآن لايزال هدفاً لسهام النقد التى تمزق سيرته، وقد انقلب عليه كل من نافقوه فى حياته ، كل من أنحنوا أمامه وأبدوا الخضوع والإمتثال، كانوا أكثر من ركلوا سيرته وتبرأوا منه ومنها .

google-playkhamsatmostaqltradent