recent
أحدث المواضيع

السفير معصوم مرزوق يكتب : أرنى كيف تحيى الموتى ..

الحجم

أرنى كيف تحيى الموتى !!

لقد شاهد العالم كله رئيس وزراء مصر وهو يجهش بالبكاء خلال كلمته فى ختام المؤتمر الإقتصادى الذى عقد مؤخراً فى شرم الشيخ، وكانت لقطة مؤثرة على المستوى الإنسانى، وكذلك كانت لقطات «السيلفى» التى تزاحم الشباب لأخذها مع رئيس الجمهورية، مفعمة بالدفء الإنسانى وحرارة المشاعر التلقائية التى أثارت الضحك والتصفيق.. وما بين دموع محلب، والزحام حول السيسى، بدا المشهد وكأنه فيلم من أفلام الأبيض والأسود الكلاسيكية العاطفية القديمة، دموع وابتسامات وختام سعيد.. وكأننا فى لحظة لم نكن فى ختام مؤتمر إقتصادى، وإنما فى ختام مهرجان «ميت سنة سينما»..!!. حسناً لندع جانباً تهنئة النفس والإفتخار بحسن التنظيم.. وحيث أن هناك عدداً هائلاً قد تولى بالفعل الحديث والغناء عن نصف الكوب المملوء بمئات المليارات، أرجو أن تتسع الصدور لمن يحاول أن يفتش فى النصف الفارغ، ليس لأننا هواة تعذيب النفس أو ترويع الآخرين أو إهالة التراب، وإنما لأن ذلك واجب كل إنسان عاقل..


لقد قال سيدنا إبراهيم لربه:

 «أرنى كيف تحيى الموتى»، فقيل له: «أولم تؤمن؟!»، فأجاب: «بلى.. ولكن ليطمئن قلبى».. لقد كنت أتمنى ومازلت لو كنت قادراً على إبتلاع كل ما شهدته وسمعته حتى الآن، وربما هناك ما لم يتم الإعلان عنه وفيه خير كثير أو لا قدر الله مصائب إضافية.. ولكن هل يمثل إنشاء عاصمة جديدة لمصر أولوية متقدمة لمواجهة مشاكلنا الاقتصادية؟... خلال الأحقاب الماضية تم بناء ما يمكن أن نطلق عليه «عواصم صغيرة» مثل مدينة السادات، والعاشر من رمضان، الشروق، مدينتى، التجمع الخامس، أكتوبر.. إلخ، بل تم سكب مليارات من الدولارات فى شكل خراسانات فى مدن الساحل الشمالى التى لا تستخدم إلا لبضع شهور فى العام..

 أننى حقيقة غير مقتنع :

بأن لدينا فى الوقت الحالى رفاهية أن ننفق ما يزيد على 45 مليار دولار على مدن جديدة.. ما أسهل وأحلى وألذ من أن يعيش الناس فى الأوهام، ولكن هذه الجريمة سبق أن شارك فيها نفس النخب تقريباً التى خرج أغلبها اليوم كى يسوقوا الوهم مرة أخرى، دون أن يتساءل أحدهم عما إذا كانت تلك المليارات لن تكون سوى ديوناً أخرى تتراكم كالجبال على أكتاف الأجيال القادمة، بينما تتسرب إلى الرمال (على غرار توشكا) وبعض جيوب المحظوظين (كالعادة).. نعم.. أنه أمر طيب وحلم قديم أن تكون لنا عاصمة جديدة كى نتخلص من أوجاع عاصمتنا القديمة وتصبح لدينا مدينة نتفاخر بها ، ولكن هل نصب 45 مليار دولار فى خراسانات إضافية أم ندفع بها فى شرايين مشروعات متناهية الصغر وصغيرة ومتوسطة (روشتة لولا دى سيلفا رئيس البرازيل التى قضى بها على الفقر فى بلاده خلال فترتين رئاسيتين)، وكذلك نغذى بها إصلاح هيكلى فى التعليم بكل مراحله على مدى الأعوام العشرة التالية

 (تجارب النمور الآسيوية)..

 هل نحن أحوج ما نكون الآن لبناء ناطحات سحاب كى نناطح دبى وغيرها من المدن الخليجية أم فى حاجة لمساكن لائقة لإستقبال حوالى 12 مليون مواطن مصرى يعيشون فى العشوائيات ومساكن الإيواء والقبور؟.. أن ما رشح حتى الآن عن تعاقدات هذا المؤتمر، يؤكد أننا أمام أحد تطبيقات مدرسة شيكاغو الإقتصادية والتى تبنتها حكومة أحمد نظيف ومجموعة الوريث، كما أنها تعد بمثابة إنجيل صندوق النقد الدولى (الذى حضرت مديرته السيدة لا جارد وكانت فى قمة السعادة والحبور).. وحيث أنه سبق لى أن نشرت فى الإهرام (العدد رقم 46401 فى 21 ديسمبر 2013)

 مقالاً تحت عنوان «صندوق طروادة الدولى»

 فإننى سأكتفى هنا بالإشارة فقط إلى أن مدرسة شيكاغو تركز على أن الدولة تعرقل الاقتصاد، وأن التدخل الوحيد المسموح للدولة هو استخدام إمكانياتها القمعية ضد من يعترض على حرية الأسواق، فالدولة لا يجوز لها أن تمتلك أو تمارس أى نشاط إقتصادى، ويحظر عليها التدخل بأى شكل فى تحديد الأسعار أو دعم السلع أو استخدام وسائل حمائية لمنتجاتها المحلية، ولذلك فإن من أبرز وصايا هذه المدرسة هو أنه «لكى تنقذ بلادك من أزمتها الاقتصادية فعليك أن تبيعها».. ويجمع المحللون على أن نجاح تطبيق النظرية الاقتصادية لمدرسة شيكاغو يحتاج فى البداية على الأقل إلى التوسع فى قمع المعارضة حتى يتسنى تمرير الدواء المرير، ويدعى كهنة هذه المدرسة أن معاناة الفقراء سوف تزيد فقط خلال الفترة الأولى من التطبيق التى يقدرونها بنحو خمسة إلى عشرة أعوام، وبعد ذلك يفترض أن اليد الخفية للأسواق سوف تلعب دورها فى رفع مستوى معيشة السكان.

 وكما ذكرت فإن أغلب الفريق الاقتصادى:

 لنظام مبارك كان من سدنة هذه المدرسة، وبالفعل كانوا يحاولون حل أزمة الاقتصاد المصرى عن طريق بيع مصر وذلك من خلال برنامج الخصخصة (رغم أنهم لم يجرأوا على المس بالدعم)، ورغم استمرار التطبيق لمدة تجاوزت ثلاثين عاماً (منذ بداية عصر الانفتاح)، فإن أغلب الشعب المصرى لم يشعر بأى عائد ملموس فى تحسين أحواله المعيشية ، وكانت النتيجة هى زيادة الفساد بكل صوره مع اتساع الهوة بين الطبقات فى ظل ممارسات قمعية أدت فى النهاية إلى الانفجار فى يناير 2011.. لقد أختتمت مقالى السالف الإشارة إليه (صندوق طروادة الدولى) بتحذير جاء فيه: «على من رضعوا من نظريات مثل مدرسة شيكاغو ولم يفطموا منها بعد أن يدركوا أن ذلك هو طريق الندامة ، وأن الشعب المصرى لن ينحنى أمام أى وسائل قمعية جديدة، خاصة أن تطبيق تلك الأفكارالوحشية لا يمكن تمريرها دون قمع.. أن طريق السلامة هو حكومة رشيدة تراعى تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال إجراءات عاقلة تهدف إلى إعادة توزيع الثروة والمشاركة العادلة فى تقاسم الأعباء..» ..اللهم بلغت، اللهم فاشهد .

google-playkhamsatmostaqltradent