العيش تحت ظلال العولمة !
أن متابعة ما يحدث في اليونان، وفي بعض دول أمريكا اللاتينية، وفي الشرق الأوسط، يؤكد أننا نشهد عصر تحولات كبري في النظام الدولي ،وإذا كان العصر الحديث قد شهد تحول نظامه الدولي مرتين بعد الحربين العالميتين الأولي والثانية، فمن الواضح أنه يشهد منذ سنوات تحولاً بطيئا ولكنه جذري في العديد من الثوابت التي حملتها الأنظمة القديمة.. عند إنتهاء الحرب الباردة وظهور الولايات المتحدة الأمريكية منفردة كقوة عظمي بلا منافس علي الصعيد الدولي، توالت التحليلات حول شكل النظام الدولي الجديد ، وعن مستقبل العلاقات الدولية في إطار هذا النظام. من ناحية أخري ثار التساؤل عن مدي صلاحية القانون الدولي الذي يستند إلي مبدأ السيادة المتساوية بين الدول في تنظيم العلاقات في زمن العولمة؟، حيث أن أول مظاهر هذا الزمن الجديد هو أن الدول لم تعد لها القدرة المنفردة في السيطرة علي أسواقها، وكذلك تزايد نفوذ المنظمات غير الحكومية بشكل غير مسبوق .
محمد عبد الهادي علام :
ان العولمة في مظهرها الخارجي تعبر عن نفسها في شكل الانفتاح الاقتصادي، بينما في مظهرها الداخلي تتمثل في ازدياد تغلغل منظمات المجتمع المدني في الحياة السياسية. ومن الأمثلة الصارخة التي تثيرها الدراسات الدولية المعاصرة، هو التساؤل عما إذا كان ميثاق الأمم المتحدة قد تحول من كونه إتفاقية متعددة الأطراف إلي دستور حاكم في العلاقات الدولية؟، ولكن إذا كان ذلك صحيحاً، وبالمقارنة بالمفهوم الدستوري الوطني، ما هي ضمانات التوازن والفصل بين السلطات المختلفة التي يوفرها ذلك « الدستور«؟. إنني أعتقد أن القوة كانت موجودة دائماً ، ووجد معها القانون بشكل أو بآخر ، ولكن في العلاقات الدولية عندما تصطدم القوة بالقانون تكون المحصلة هي أن المنتصر هو الذي يعبر عن قانون القوة وليس قوة القانون ،فعلي سبيل المثال :
عندما تم إغتيال الأرشيدوق فردناند في سراييفو في 23 يوليو 1914 ، أصدرت الإمبراطورية المجرية / النمساوية إنذار إلي صربيا يحمل شروطاً تعجيزية بحيث لا يمكن للأخيرة أن تقبلها ، وقد ترتب علي ذلك بالطبع ما نعرفه جميعاً عن بدء الحرب العالمية الأولي ، ولكن قد لا يعرف الكثيرون أن صربيا قد أجابت علي هذا الإنذار باقتراح قانوني وهو عرض النزاع علي المحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي ، وبالطبع لم تكلف الإمبراطورية نفسها مجرد عناء النظر في هذا الاقتراح ، فهي تملك القوة ، والقوة هي التي تصنع القانون ( ويمكن المقارنة بين ذلك وبين الإنذارات المتتالية والشروط العجيبة التي كانت ترسلها أمريكا إلي العراق قبل الغزو).
وقد ترتب علي الحرب العالمية الأولي :
ظهور المدرسة المثالية التي رأت وضع أساس« مؤسسية العلاقات الدولية « في إطار قانوني ملزم كعلاج للنظام الدولي السابق الذي كان يستند إلي نظرية« توازن القوي « في العلاقات الدولية ، وبناءاً علي ذلك أنشئت عصبة الأمم. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية ، سقطت المدرسة المثالية في العلاقات الدولية والقانون، وإن لم يتخل الفكر العالمي عن مفهوم « مؤسسية العلاقات الدولية « ، ولكنه زاوج بينها وبين نظرية توازن القوي التي عضدتها الحرب الباردة ، وهكذا أدي سقوط المدرسة المثالية إلي ظهور المدرسة الواقعية ، وقد كانت هذه المدرسة الأخيرة تربط دائماً بين المدرسة المثالية وبين القانون الدولي ، حيث رأت أن وهم المثالية بما أقامته من مؤسسات دولية قد أدي إلي إغفال واقع الحياة السياسية الدولية بما أدي في النهاية إلي حرب عالمية مدمرة ، وكان علي رأس من تبنوا هذه الفكرة الكاتب الأمريكي الشهير / هانز مورجنثاو ، ومواطنه جورج كينان . ولقد ولج العالم في ظل العولمة إلي المرحلة الثالثة ، حيث يتبني أصحاب الواقعية الجديدة فكرة أن العلاقات بين الدول تحكمها المصالح العليا لكل دولة علي حدة ، ولا يعترفون بأي أثر أو جدوي للقانون الدولي إلا في الموضوعات التي ليس لها اعتبار كبير في حدود تلك المصالح العليا للدول ويعد هنري كيسنجر من أشهر من تبنوا هذا التوجه .
وفي الإطار السابق ..
نري أن مجلس الأمن قد أصبح جهازاً للتشريع الدولي والتنفيذ في نفس الوقت، وذلك في غياب سلطة قضائية دولية واضحة واختصاصات قانونية محددة ، دون أن نجد في الفكر الليبرالي الغربي أي تفسير لقبوله بمفهوم الجمع بين سلطات التشريع والتنفيذ إلا في تسليمه بسلطة ديكتاتورية دولية . يمكن القول باختصار أن هناك تراجعا واضحا للقانون الدولي في مواجهة متغيرات السياسة الدولية، ولعل ذلك يتطلب ضرورة إعادة النظر في النظام القانون الدولي الحالي كي يتم تعديله ليتماشي مع هذه المتغيرات ، ويضع له قواعداً واضحة محددة . فعلي سبيل المثال أصبحت الحاجة ملحة لتعديل ميثاق الأمم المتحدة فيما يتعلق بتشكيل وإختصاصات أجهزة المنظمات الدولية وعلي رأسها مجلس الأمن ، وذلك لا يتحقق فقط من خلال زيادة عدد المقاعد دائمة العضوية ، وإنما من خلال إلغاء تلك المقاعد الدائمة ومعها حق النقض ( الفيتو ) باعتبار ذلك متناقضاً مع جوهر ديمقراطية العلاقات الدولية أو « العولمة « ،
ونفس الأمر ينطبق علي محكمة العدل الدولية:
بما يتيح لها أن تلعب دوراً أكبر في تحقيق السلم والأمن الدوليين . أن ما تعنيه العولمة كما اتضح من سياسة الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الباردة ، هو سيادة القيم الأمريكية في إطار هيمنة سياسية وإقتصادية أمريكية علي العالم ، هي الإنفرادية واحتكار الحقيقة ، وهي عدم الاعتراف بالتعددية الدولية، وذلك واضح تماماً في مجمل تصرفات تلك الإدارات، وما يصدر عنها من تصريحات ، وبالتالي فان مفهوم السيادة الإقليمية بالنسبة لكل دول العالم لا يعد حائلاً أمام السياسة الأمريكية ، حين تروج للاقتصاد الحر والديمقراطية وحقوق الإنسان ،
ولكنها في تناقض مدهش :
تتمسك بشكل صارم بمفهوم سيادتها الإقليمية بشكل مطلق بل وتمد اختصاصه كي يخترق حدود السيادة الإقليمية لغيرها من الدول .ان كل هذه الإرهاصات قد تعني نهاية الدولة بمفهومها الكلاسيكي ، خاصة مع ذلك الإهتمام المتزايد بالتمثيل غير الحكومي للمنظمات غير الحكومية التي تنتشر إنتشاراً سرطانياً في دول العالم الثالث، بغض النظر عن الولاء أو التبعية، مع غياب واضح لأي نظام قانوني يحكم نشاط هذه المنظما، فلا نعرف مثلاً ما هي الجهة التي ينبغي أن تكون هذه المنظمات مسئولة أمامها؟، فإذا كانت الحكومات مسئولة أمام البرلمانات ، فتلك المنظمات في الأغلب الأعم تكون مسؤوليتها عامة وغامضة في إطار ما يطلق عليه المجتمع المدني ، وأعضاء هذه المنظمات لا يكتسبون عضويتها عن طريق الإنتخاب الشعبي ، ومع ذلك فأنهم قد أصبحوا قوة ضغط هائلة علي الحكومات من خلال اتصالاتهم الدولية بالمنظمات المماثلة . ورغم هذه الصورة المتشائمة القاتمة ، إلا أنه ينبغي أن نختبر كافة الاحتمالات ونتدارسها تأهباً لتحديد خياراتنا ورسم الخطط اللازمة ، لأن المشكلة لن تكون فقط انهيار الحدود الاقتصادية أو القانونية للدول، وإنما الأهم هو الاختراق الذي من المؤكد أنه سيصاحب هذا التطور في إتجاه الثقافة والشخصية القومية بل والدين أيضاً ، وهذا كله قد يحتاج إلي حديث آخر ، ويكفي هنا أن نؤكد أنه يمكن لمنطقتنا أن تساير تيار العولمة بشرط أن تشارك في صنعه وأن تتسلح جيداً كي تقلل من آثاره السلبية وتحقق أكبر فائدة من جوانبه الإيجابية ، ولن يكون ذلك إلا بالبناء الواعي والصحي للمجتمعات العربية ، أياً كان شكل ما يسمي بالنظام الدولي الجديد ...