recent
أحدث المواضيع

مرثية العمر الجميل ! بقلم صلاح عيسى

الحجم

مرثية العمر الجميل !!

هذه قصة كنت شاهدا على بعض فصولها.. ثم انني حققت مالم اشهده منها, واجد من واجبي ان أرويها, ليس فقط لأن كاتم الشهادة آثم قلبه, او لانها تتعلق بشخصية عامة , هو الشاعر الكبير (احمد فؤاد نجم) بل لأنها ــ وهذا هو المهم ـ تطرح قضية عامة.. وهامة! ففي ربيع هذا العام, وفي ختام احدى الندوات التي عقدت على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب, كان المتحدث فيها هو رجل الاعمال المعروف (نجيب ساويرس) استحثه مدير الندوة الدكتور (سمير سرحان) على انهائها لأن موعد الندوة التالية لها قد أزف.. وما كاد (ساويرس) يعلم انها مخصصة للشاعر (أحمد فؤاد نجم) حتى أصر على ان يبقى.. واستقبل نجم بحماس شديد, قائلا انه حين كان طالبا بكلية الهندسة في بداية السبعينات كان يحرص على حضور كل المؤتمرات الطلابية السياسية التي كانت تختتم عادة بحفل ينشد فيه (نجم) اشعاره, ويغنيها الشيخ امام عيسى .


ميدان التحرير !!

وانه كان احد الطلبة الذين اعتصموا في (ميدان التحرير) في نهاية عام ,1972 يطالبون الرئيس الراحل انور السادات, بالاستعداد الجدي لخوض معركة تحرير الارض المحتلة. وكان (نجم) بين الذين انضموا اليهم, وقبض عليه مع بعضهم بعد فض الاعتصام. ورد (نجم) التحية بأسوأ منها, فهاجم (ساويرس) واتهمه بأنه المسؤول عن وقف صدور جريدة (الدستور) التي كانت تصدر بترخيص من قبرص, وتطبع في مصر ــ لأنها نشرت بيانا نسبته للجماعات الاسلامية المتطرفة, يتهدده, هو وعددا آخر من رجال الاعمال الاقباط, اعتبره تحريضا وليس خبرا, فأثار ضدها الحكومة فسحبت ترخيص طباعاتها في مصر ونفى ساوريس ذلك. وقال ان كل ما فعله, هو انه لفت نظر المسؤولين الى انه ليس من العدل ان تعاقب (الدستور) على نشر موضوع, نشرته بعدها (روز اليوسف) .. وانه فوجئ بعد ذلك بنقل (عادل حمودة) ــ نائب رئيس تحرير روز اليوسف السابق ــ كاتبا بالاهرام وبعد ايام من ذلك, اتصل بي (نجم) هاتفياً..


عشاء على شرف الفاجومى :

ليقول لي ان (ساويرس) يقيم في منزله مأدبة عشاء على شرفه. وأنه فوضه في ان يدعو بعض اصدقائه. ولم يكن عدد المدعوين يزيد على عشرة.. من الكتاب والصحفيين والفنانين ورجال السياسة.. ولم أجد في ديكور المنزل ولا في كمية الطعام ولا في انواعه, ولا في طقوس الاستقبال, اية محاولة للاستعراض او الابهار.. ولم اشعر بالقلق الذي يعتريني عادة حين أجد نفسي في مكان يختلف عن نمط الحياة الذي ألفته.. وتحدث (ساويرس) عن اشعار (نجم) التي شغف بها في مطلع شبابه. وقال انه بصرف النظر ــ عن المواقع والمواقف والمصالح ــ يعجب بكل صاحب رأي يدافع عنه ويتحمل في سبيله. وفي ختام السهرة, اهدى (نجم) نسخة من ديوانه الى (ساويرس) بكلمات حرصه على أن يطلعنا عليها, قال فيها ما معناه انه يتمنى ان يكون طلعت حرب وليس (روتشيد) واستأذنه (ساويرس) في ان يهديه جهاز تليفون محمول من الشركة التي يملكها وقبل (نجم) الهدية وسط تندرنا لدخوله ــ وهو في السبعين ــ عصر المحمول.. 


مخبرا اليكترونيا :

ثم علمت منه بعد ذلك, انه لم يعرف كيف يستخدمه ـ وانه وضعه تحت الوسادة على سبيل البركة, ثم استأذنت (ساويرس) في ان يبيعه لحاجته الى ثمنه أولا, ولانه لم يتعود ان يحمل في يده أو جيوبه شيئا, ثم انه ــ وهذا المهم ــ لايجد مبررا لان يحمل معه مخبراً اليكترونياً, حتى لايقطع عيش المخبرين من البشر.. وبعد اسبوعين من ذلك علمت ان (نجم) رد التحية ـ كالعاده ــ بأسوأ منها, فدعا ساويرس وزوجته الى العشاء بشقته المتواضعه على سطح احد بلوكات مساكن الزلزال بمنطقة جبل المقطم, وقدم له مائدة عامرة من الطعام الفاخر تتكون من لحمة الرأس والنيفه والكوارع وفتة الثوم والخل.. وكان من بين المدعوين الى هذه المأدبة بعض الشباب الذين يعملون في فريق الكورال التابع لدار الاوبرا المصرية, تمثلوا على انهم خاطبوا مديرها المايسترو مصطفى ناجي لتقديم برنامج يعيد توزيع اغاني نجم التي لحنها الشيخ امام, ولو لمرّة واحدة, في عيد الميلاد السبعين لــ (نجم) الذي حل في 22 مايو الماضي..


نجم وأمام :

 وتحمس ساويرس للمشروع ووعد بأن يتدخل لدى الاوبرا لتذليل العقبات وتطوع المخرج السينمائى الموهوب (وحيد مخيمر) ــ الذي كان مدعوا الى المأدبة ــ بأن يقدم مشروعا لعرض مسرحي غنائي عن ظاهرة (نجم) و(إمام) .. وعندما اتصل بي ليسألني عن المراجع التي يستعين بها في اعداد النص, تحمست للفكرة, فقد كنت أول من كتب يقترح على المايسترو (سليم سحاب) ان يعيد توزيع الحان الشيخ امام لقصائد نجم, توزيعا أوركستراليا لتقدمها الفرقة القومية للموسيقى العربية, باعتبارها ظاهرة فنية معاصرة, وغير مسبوقة, تعبر بكلماتها وألحانها عن حقبة كاملة من تاريخنا السياسي والفني, ترتبط بها عواطف جيل كامل من العرب, يتوزع الآن بين العظماء والصعاليك, وبين اصحاب الملايين وأصحاب الملاليم.




مشروع لم يكتمل ..

وظللت اتابع خطوات المشروع عبر (وحيد مخيمر) غالبا ومن خلال (نجم) احيانا.. وبدا لفترة ان الامور تمضي في طريقها المرسوم.. فقد تعهد المايسترو (ناجي) بأن تقوم الاوبرا المسرح وما يحتاجه العرض من الكورال وراقصي الباليه وتبرع (ساويرس) بأن يمول ما يتطلبه العرض من نفقات تخرج عن ذلك.. وقطع المشروع خطوات لا بأس بها في طريق التنفيذ.. لكن شياطين البيروقراطية ما لبثوا ان برزوا من كواليس الاوبرا لكي يعقدوا كل شيء.. فانسحب (وحيد مخيمر) بعد ان عجز عن اتمام العمل.. وسحبت الاوبرا موافقتها على المشاركة فيه من دون ابداء الاسباب, التي هي ــ بالطبع ــ في بطن الشاعر أو بطن المايسترو. لكن (ساويرس) لم ينسحب, وتطوع لكي يقدم احدى دور السينما التي انشأتها شركته لكي تكون مكانا للعرض, على ان يسبقه حفل استقبال متواضع شهدتهما, وشهدهما معي مئات من المثقفين والكتاب والصحفيين والفنانين لم يتناولوا لا (سيمون فيميه) ولا (فواجرا) .. 


الظاهره السياسيه !!

لأن الأمر لم يكن يزيد على اطباق من محشي ورق العنب والكفتة والبطاطس والعصائر, لم يقبل عليها احد بحماس لأن ما كان يهم الجميع, هو العرض نفسه, فتلك أول مرة يقدم فيها فن الثنائي, (امام ــ نجم) بتوزيع جديد, وهي خطوة هامة للحفاظ على هذا التراث النادر, الذي يوشك ان يتبدد, بعد ان تحولت الظاهرة السياسية والاجتماعية والفنية التي كان يعبر عنها, الى ماض يبدو اليوم سحيقا.. وبعد ان سادت موجة الاغنية الربابية لتفسد وجدان الأجيال القادمة, وتلك اول مرة يكرم فيها (نجم) في بلده التي لا يكاد يعرفه فيها الا القليلون بسبب الحصار الرسمي الذي فرض على فنه, ولانه كان ــ ولايزال ــ مطرودا من فردوس المؤسسة .. بعد ان كرم في كل انحاء الوطن العربي, وفي عواصم اوروبية, واصبح فنه بعض رايات وطنه, التي يفخر بها المصريون في كل مكان. ومع ان نقل العرض من خشبة مسرح الاوبرا الى دار سينما ليست مخصصة لهذا الغرض, 


الامكانيات المتاحه !

قد تطلب تغييرات في النص, والغى جوانب هامة منه, الا ان المخرج السينمائي (مجدي احمد علي) ــ الذي تطوع ليحل محل (وحيد مخيمر) ــ استغل الامكانيات المتاحة افضل استغلال وقدم عرضا بسيطا ينتقل بين مشاهد سينمائية يتحدث فيها (نجم) عن حياته ــ او تتضمن مشاهد تسجيله لها, وبين القاء قصائده, بأصوات نجوم كان من بينهم (فردوس عبدالحميد) و (احمد عبد العزيز) و (محمود حميدة) , او غنائها بأصوات الكورال, او بأصوات مفردة كان من بينها المطربة المغربية (اسماء) , والفنان (محمود الجندي) , والفنانة (عزة بلبع) وهي لاتزال افضل من يغني الحان الشيخ امام التي تربى صوتها عليها خاصة بعد ان نضج صوتها, على نحو يجعلها مؤهلة لكي تكون احدى مطربات الصف الاول, لولا الهاموش الغنائي الذي يحتل آذان المستمعين! وكان مسك الختام هو الموسيقار عمار الشريعي, الذي احيا وصلة من الكلام الجميل الحكيم, والغناء المثقف لبعض مالحنه من اشعار (نجم) !


حوش قدم !!

 وكان معظم المدعوين للحفل من جمهور (نجم) و (امام) الذي تعودت ان اراهم في حفلاتهما ومؤتمراتهما وجلسات الطرب في منزل (حوش قدم) الذي هدمه الزلزال, كما هدم زلزال كامب ديفيد وحرب الخليج ومدريد واوسلو كل احلام جيلنا ... ولم يكن من بينهم رجال اعمال الا هؤلاء الذين تحولوا منهم الى رجال اعمال ومنهم (ساويرس) نفسه, بل ان بعض الفنانين الذين شاركوا في الحفل, كانوا بين جمهور ظاهرة نجم وامام حين كانوا طلبة في الجامعة, كان من بينهم (محمود حميدة) و (احمد عبدالعزيز) و(محمود الجندي) و (فردوس عبدالحميد) , ولم يتقاض احد منهم او من غيرهم من الفنانين اجرا على مشاركتهم, ذلك انهم لم يأتوا كمحترفين, او لمجرد ان يكرموا (نجم) و(امام) ولكن لكي يستعيدوا ذكريات زمن جميل ليسوا هم المسؤولون عن انهياره, بل كانوا بعض ضحايا هذا الانهيار. نقلتني الأمسية ــ عبر 15 أغنية قام بتوزيعها موسيقي شاب موهوب اسمه (جمال رشاد) ــ الى ذلك الزمان الجميل, الذي كانت الأمة فيه تقاوم الانهيار, وكان (نجم) امام تعبيرا عن فن المقاومة, وسوف يدخلان التاريخ بهذا المعنى, بصرف النظر عما آلت اليه الأمور, مما لم يكن لهما يد أو رغبة فيه. والحقيقة أنني دهشت للهجوم الذي تعرض له (ساويرس) وتعرض له (نجم) بسبب هذا الحفل .. ولم أجد لها أي مبرر منطقي سوى هذا العدوان السارح الذي يشيع بين المثقفين والذي لا يعرف الى من يتوجه بالتحديد فيرتد الى الذات.


 وحتى الآن لا أعرف ما هي الجريمة التي ارتكبها (ساويرس)

 مع انه لم يظهر على خشبة المسرح ولم يلق كلمة في الحفل, ولم يستقبل المدعوين, بل جلس بينهم كواحد منهم, ولم ينشر اعلانا أو يسرب خبرا الى الصحف يتفاخر فيه بأنه استشعر واجبا قصر الجميع عن ادائه, من الاوبرا الى وزارة الثقافة, ومن الحكومة الى المعارضة ومن المحيط الى الخليج, وكرم شاعرا مطرودا من المؤسسة التي ينتمي اليها بالمصلحة! واذا كان لابد من الهجوم على (ساويرس) وغيره من رجال الأعمال, فلماذا لا يقتصر هذا الهجوم على خطئهم وليس على صوابهم؟.. وما الفارق بين ان يمول (ساويرس) أو غيره حفلا لتكريم (نجم) وبين أن يمول هو أو غيره طبع وتوزيع أغنياته على أشرطة كاسيت؟ ولماذا يكون تمويل هذا الحفل جريمة, ولا يكون الحصول أو السعي للحصول على جوائز مثل (العويس) و(البابطين) وغيرها من الجوائز التي يخصصها أثرياء العرب لتشجيع الأدب والفن كذلك, وما الفارق بين ذاك, وبين أن تمول مليونيرة عربية مثل (سعاد الصباح) دار نشر لا تستهدف الربح لكي تنشر أعمال الأدباء العرب؟. تلك اسئلة لا أعرف لها اجابة, أما الذي أعرفه, فهو أنني ما كدت أسمع أشعار (نجم) 


التي ألقيت أو غنيت في الحفل, والتي تهاجم الانفتاح وتندد بالرأسمالية حتى همست في اذن زوجتي ضاحكا: ابن الكلب بيهاجم الممول .. وما كاد الحفل ينتهي, لاكتشف ما صنعه الزمن بـ (نجم) وبالجيل الذي تغنى بأشعاره, حتى قلت لنفسي: انه ليس عيد ميلاد .. ولكنه فرحة للعمر الجميل.

google-playkhamsatmostaqltradent