recent
أحدث المواضيع

ستة من عشرة بقلم : صلاح عيسى

الحجم

                         

سته من عشره : مقال بتاريخ 17 يناير 1999

بوفاة عبد اللطيف البغدادي (1917 ـ 1999) هذا الأسبوع, يختفي ستة من الشبان العشرة الذين ظهروا على خريطة الأمة السياسية منذ ما يقرب من سبعة وأربعين عاما باعتبارهم أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952 فأقاموا الأمة ـ والدنيا ــ وأقعدوها, وعاشوا وعاشت منذ ذلك الحين أفراحا لا تحصى وأحزانا لا تعد, وصنعوا انتصارات لم يغادر صدى زغاريدها الأذن , وانكسارات لم تجف المآقي من دموعها بعد! وعندما تشكلت أول قيادة لحركة الضباط الأحرار في مصر خلال عام 1950 كانت تعرف باسم اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار,


اللجنه التأسيسية :

 وتتكون من تسعة أعضاء, بينهم خمسة كانوا نواتها هم: جمال عبد الناصر, وخالد محيي الدين, وحسن ابراهيم وكمال الدين حسين, وعبد المنعم عبد الرؤوف, وأربعة انضموا إليهم هم: صلاح سالم, وعبد اللطيف البغدادي وعبد الحكيم عامر وجمال سالم. وقبل الثورة بشهور فصل عبد المنعم عبد الرؤوف بسبب محاولته ضم أفراد من التنظيم ــ الذي كان مصرا على الاحتفاظ باستقلاله عن كل الأحزاب ــ لعضوية الجناح العسكري للاخوان المسلمين, فنقص العدد إلى ثمانية, وبعد ثلاثة أسابيع من نجاح الحركة, وفي 15 أغسطس 1952 اخذت اللجنة رسميا اسم (مجلس قيادة الثورة) وانضم إلى عضويته خمسة آخرون ممن ساهموا بدور كبير في انجاح الثورة ليلة 23 يوليو, 


الخلافات !

وهم: محمد نجيب ويوسف صديق وزكريا محيي الدين وحسين الشافعي وعبد المنعم أمين. وخلال العام الأول للثورة اختفى اثنان من أعضاء المجلس, هما عبد المنعم أمين, الذي تكاثرت الشائعات حول صلاته الوثيقة بالسفارة الأمريكية, وحول مضاربات زوجته في البورصة, ويوسف صديق, الذي عارض اتجاه المجلس لممارسة السلطة, وطالب باعادة الحكم للمدنيين, وخلال العام الثاني اختفى اثنان آخران, هما: محمد نجيب الذي تراكمت الخلافات بينه وبين الأعضاء بسبب التباين في العمر وفي الرؤية, وخالد محيي الدين الذي مال خلال أزمة مارس 1954 لفكرة عودة الجيش لثكناته, واعادة الحكم الدستوري على النمط الليبرالي فاستقر عدد أعضاء المجلس عند تسعة أعضاء نقصوا إلى ثمانية خلال العام التالي, 


أستقالة صلاح سالم ؟

عندما استقال صلاح سالم بسبب فشل سياسته في السودان, التي انتهت بانفصاله عن مصر, وفي يوليو من العام التالي 1956 حُل المجلس بعد ان انتهت فترة الانتقال, وتسلم رئيس الجمهورية المنتخب جمال عبد الناصر سلطاته! ومع ان صلاح سالم كان آخر الذين استقالوا من المجلس قبل حله فقد كان أول من غادر الدنيا منهم , فقد مات عام 1961, قبل ان يصل إلى الأربعين من عمره, وكان شابا طيب القلب فوارا بالعواطف الوطنية, وضابطا شجاعا حصل على ترقية استثنائية اثناء حرب 1948, تقديرا لما قام به من بطولات, لكنه كان سريع الانفعال, متقلب المزاج, يتحول من اعصار عات إلى ماء ساكن في لحظات, وبسبب حماسه اللاهب وموهبته كخطيب مفوه, 


لسان الثوره :

ولأنه كان يتولى وزارة الارشاد القومي التي سميت فيما بعد بوزارة الإعلام, فقد سمته الصحف لسان الثورة وترمومترها الحراري, وحاز جماهيرية كاسحة خلال العامين التاليين لظهوره على الساحة السياسية, دفعته للتفكير آنذاك في ان يرشح نفسه رئيساً للجمهورية عندما تنتهي فترة الانتقال, ولم يكن يعتبر جمال عبد الناصر منافسا يخشى خطره, مع أنه كان عمليا رئيس مجلس القيادة إذ لم تكن شعبيته الكاسحة وشخصيته الكاريزمية قد برزت بعد ولكنه كان يعمل حسابا لمنافسة اللواء محمد نجيب .

على شفير الحرب الاهليه :

ولعل ذلك ما دفعه لأن يبالغ في الحملة الدعائية التي كان عليه باعتباره وزيرا للارشاد, ان يشنها ضده, عندما استقال من رئاسة مجلس قيادة الثورة في فبراير 1954, لكن الأزمة لسوء حظ (صلاح سالم) انتهت بعد ثلاثة أيام فقط , عاد محمد نجيب إلى موقعه بعد ان أوشكت استقالته ان تقود الجيش إلى حرب أهلية , وخسر صلاح سالم الجانب الأكبر من جماهيريته بسبب هجومه على الرجل الذي لم يكن الناس يعرفون أيامها زعيما للثورة غيره. وبعد ستة أشهر احكم خلالها مجلس قيادة الثورة, قبضته على الأمور أقصي محمد نجيب مرة ثانية ونهائية ليخسر صلاح سالم بسبب ذلك أيضا ما تبقى من رصيده السياسي والجماهيري, فقد كان مسؤولا عن ملف الوحدة المصرية السودانية،
 وكان جانباً كبيراً من رصيد مصر السياسي في السودان يعود إلى شخصية محمد نجيب الذي ولد في السودان من أم سودانية وأب مصري, وعمل به طويلا, فلما أقصي عن السلطة قوي في السودان الاتجاه الداعي لاستقلاله عن مصر, فاستقال صلاح سالم من كل مناصبه, باعتباره المسؤول عن هذه النتيجة واختفى لفترة ثم عاد عام 1956 ليصدر جريدة يومية هي جريدة (الشعب) لتكون منبرا للتبشير بأفكار ثورة يوليو الداعية إلى الوحدة العربية! 


وأثناء عدوان 1956 أشار على عبد الناصر.

 بأن يسلم نفسه للسفارة البريطانية, لأنه الهدف الذي يطلبه المعتدون حرصا على مستقبل البلاد, وانقاذا لها مما قد تتعرض له من دمار, وعندما رفض الجميع الفكرة وأصر عبد الناصر على المقاومة قائلا انه يفضل الانتحار على تسليم نفسه للاعداء سحب صلاح سالم اقتراحه وسافر على الفور إلى منطقة قناة السويس, لكي يقود المقاومة الشعبية ضد العدو الذي كان يشير بالاستسلام له قبل دقائق. وبعد اختفاء عامين عاد صلاح سالم عام 1959 ليرأس مجلس ادارة وتحرير الجمهورية, لكن المرض كان قد نال منه, فمات ومع انه شيع في جنازة رسمية وشعبية ضخمة شارك فيها كل زملائه وفي مقدمتهم عبد الناصر نفسه, فقد نشرت الأهرام خبر وفاته وجنازته على عمودين فقط, بينما خصصت (الجمهورية) صفحات اضافية للحديث عنه باعتباره رئيساً لمجلس ادارتها. 


رئيس الجمهوريه ؟؟

وهكذا نعى الثائر الذي لم يكن يشك في استحقاقه لمنصب (رئيس الجمهورية) باعتباره رئيساً لتحرير (الجمهورية) . وكان المشير عبد الحكيم عامر هو الثاني من رجال يوليو الذي يغادر الدنيا قبل الأوان حدث ذلك في 13 سبتمبر 1967 وبعد مائة يوم من هزيمة يونيو المروعة, التي لا تزال تلقي بظلالها الكئيبة على كل ما نعيشه, ولم يكن قد أكمل بعد عامه الثامن والأربعين عندما مات منتحرا في استراحة صغيرة على شاطئ ترعة المريوطية, بعد خمسة عشر عاما, صعد خلالها سلم المجد بقفزات واسعة, فترقى من رتبة الرائد عام 1952 إلى رتبة المشير عام ,1959 وقفز ترتيبه في سلم أقدمية مجلس قيادة الثورة, طبقاً لرتبهم العسكرية, من أواخر الصف الى مقدمته, فأصبح النائب الأول لرئيس الجمهورية, والوحيد الذي يتحدى سلطته, بعد أن انفرد منذ عام 1953 ــ بقيادة القوات المسلحة, واكتسب ولاءها لشخصه.


عبد الحكيم عامر بين القتل والانتحار ؟

وكان شابا هادئا دمث الخلق وضابطا متميزا حصل هو الآخر على ترقية استثنائية أثناء حرب 1948 اختاره عبدالناصر ليتولى قيادة الجيش, لكي يقصي محمد نجيب عنها, وساند أعضاء المجلس ذلك في حمى صراعهم مع الرجل, بعد أن تنبهوا إلى ان سيطرته على الجيش, سوف تخل بميزان القوة بينهم وبينه, وفيما بعد تنبهوا إلى ان ميزان القوة, الذي ظنوه سيميل نتيجة لهذا القرار لصالحهم قد عاد بعد التخلص من محمد نجيب ليختل من جديد لصالح عبد الناصر. إذ كان عبد الحكيم عامر صديقه الأثير, بل ربما الوحيد ولم يتنبه عبد الناصر نفسه إلا فيما بعد إلا ان الرجل الذي رقاه من (رائد) إلى (مشير) سوف يستخدم أوراق القوة التي وضعها في يده بنفسه, لكي يتحدى زعامته, بل ويحاول الانقلاب عليه لكي يعود إلى قيادة القوات المسلحة على الرغم من الهزيمة المروعة التي قاد إليها البلاد . وحين فشلت المحاولة ووجد نفسه يهبط من القمة إلى السفح في ضربة حظ عاثر, غادر الدنيا دون ان يشيعه أحد من زملائه, إلا أنور السادات, ولم يعلن خبر وفاته إلا بعد ان كان قد دفن بالفعل! وكان جمال سالم الذي غادر السلطة عام 1956 هو ثالث أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين يغادرون الدنيا, وقد مات عام 1968, وأمضى السنوات الأخيرة من عمره يعاني من مرض عُضال, ومن مضاعفات حادث كان قد تعرض له عندما سقطت به طائرة كان يقودها قبل الثورة, سببت له آلاما رهيبة, وكان يمضي معظم أوقاته يطوف بالمساجد داعيا الله ان يغفر له أخطاءه, وان يخفف عنه عذابه. 


مزاعم السلطه المدنيه ؟؟

وكان كشقيقه صلاح طيب القلب, شديد العصبية, ووطنيا متحمسا, واليه يعود الفضل في صدور قانون الاصلاح الزراعي وفي تطبيقه, وقد عارض عبد الناصر بقوة حين اتجه بعد شهور من الثورة للسير في طريق اجراء انتخابات برلمانية, تنتهي بوضع دستور جديد, وبتسليم السلطة المدنية, وتزعم جبهة داخل مجلس قيادة الثورة, كانت ترى أن مصر لم تجن شيئا من الديمقراطية الليبرالية, وان أوضاعها تتطلب حكما استبداديا عادلا يحقق الاستقلال الوطني والتقدم الاقتصادي, وكان يعتقد ان الديمقراطية لا ضرورة لها حتى داخل مجلس قيادة الثورة, وأنها تضييع للوقت في مناقشات لا طائل من ورائها, 
ونجح بالفعل في استصدار قرار من المجلس, يفوض عبدالناصر في اتخاذ ما يشاء من قرارات بعد ان يستشير من يشاء من أعضاء المجلس.
ومع ان عبدالناصر لم يستخدم هذا التفويض إلا انه سرعان ما مال إلى رأي هذه الجبهة من أعضاء المجلس, وكانت تضم عبد اللطيف البغدادي وحسن ابراهيم وأنور السادات وعبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين وصلاح سالم, أي كل الذين اتهموا عبد الناصر بعد اختلافهم معه, وبعد وفاته, بأنه كان ديكتاتورا, ليضيفوا إلى ظواهر يوليو اللافتة للنظر, ظاهرة القول بأن الحكم يكون ديمقراطيا حتى لو لم يكن كذلك طالما يكون الإنسان صاحب نفوذ في اتخاذ القرار, فإذا ما غادر الحكم أو فقد نفوذه داخله فإن الحكم يكون ديكتاتوريا, حتى لو لم يكن كذلك.


 وكان لابد ان يغادر الجميع السلطة أولا !!

 حتى يتمكنوا من اكتشاف ان ما كان يراه عبد الناصرــ في البداية ــ كان هو الصواب ان تقع هزيمة يونيو 1967, لكي يكتشف عبد الناصر نفسه, أنه أخطأ حين مال لرأيهم, لكنه كان الرابع من رجال يوليو الذين غادروا الدنيا من دون ان يصحح الخطأ, إذ حالت دون ذلك ظروف الهزيمة. أما السادات الذي كان في بداية الثورة من أكثر المتحمسين للديكتاتورية فقد حاول تصحيحه خلال السنوات الأولى من حكمه, قبل ان تغريه السلطة في سنوات حكمه الأخيرة, بالنكوص إلى موقفه القديم, فغادر الدنيا بعد ان أعاد الأمور إلى ما كانت عليه! ولم يكن عبد اللطيف البغدادي الذي غادر الدنيا هذا الأسبوع يقل عن الآخرين ازدراء للديمقراطية ولم يكن الجميع ــ انصافا لهم ـ بعيدين عن تيار عارم كان يسود بين شعوب المستعمرات والبلاد المتخلفة في تلك السنوات, تقوده رغبة عارمة في التحرر من الاستعمار والفقر والتخلف والظلم الاجتماعي. وعلى امتداد اثني عشر عاما أمضاها في السلطة, عضوا بمجلس الثورة ورئيسا لمجلس الأمة, ونائبا لرئيس الجمهورية, 
خدم خلالها وطنه باخلاص وتفان وحين وجد نفسه خلال عام 1963 خارج دائرة التأثير في القرار استقال احتجاجا على غياب الديمقراطية, وبعد ست سنوات استرد ثقته بعبد الناصر الذي عرض عليه ان يعود إلى السلطة, ولكن وفاته المفاجئة حالت دون تنفيذ المشروع ولابد ان البغدادي قبل العرض لاعتقاده بأن الديمقراطية الغائبة سوف تعود بعودته للسلطة, أما المؤكد فهو ان جزءا من تاريخ الوطن والأمة قد غاب هذا الأسبوع .

google-playkhamsatmostaqltradent