recent
أحدث المواضيع

محمد مدبولى يكتب : قراءة علميه لما حدث فى يناير 2011



(١) الضوابط المنهجية

بعد مضي اثني عشر عاما لابد من وقفة علمية لتوصيف ماحدث في يناير ٢٠١١ بمعزل عن التجاذبات الانفعالية بين أطراف يسعى كل منها إلى فرض سرديته الخاصة.

وأول الضوابط المنهجية 

هو تحديد حدود الظاهرة المدروسة، ما يجعل الجمع بين ماحدث في يناير ٢٠١١ وفي يونيو ٢٠١٣ في توصيف واحد خطأ منهجيا يترتب عليه تحميل بعض الأطراف الفاعلة في الحدث الأول مسؤولية مانتج عن أفعال أطراف أخرى في الحدث الثاني، كما يترتب عليه الخلط بين انحراف الطرف المستهدف بالفعل الثوري في الحدث الأول ( فساد النظام ) وبين انحراف الطرف المستهدف في الحدث الثاني ( هوية الدولة).

والضابط الثاني : 

 لإنجاز هذه القراءة العلمية هو تعيين النظرية العلمية التي سوف يتم الوصف والفهم والتفسير وفقا لمقولاتها.. الأمر الذي يترتب على إهماله فوضى المسميات والمفاهيم وغياب الموضوعية في التحليل واختطاف النتائج ولي عنق الحقائق.. ولاشك أن اختيار نظرية معينة دون غيرها يشي بإمكانية وجود انحياز أيديولوجي لدى الباحث؛ فالتعامل مع ماحدث في يناير بوصفه ( فعلا ثوريا لرفع التناقض) يختلف عنه بوصفه ( اختلالا في التوازن نتيجة قصور مزمن في الفاعلية) عنه بوصفه ( صراعا بين بنى مرجعية حاكمة)..وهكذا.

وثالث الضوابط 

يتعلق بالهدف من التناول بالدراسة؛ فمحاولة التشخيص (لما حدث وقتها) بهدف التدخل وتوجيه (ما يحدث الآن) ينزلق بنا إلى تغليب السردية الذاتية على الرصد الموضوعي..فما كان من أفعال وردود أفعال وتحول في مسار الأحداث يصعب بل لا يجوز الحكم عليه بمعيار النتائج اليوم، وهو ما نسميه (ادعاء الحكمة بأثر رجعي).

والضابط الرابع :

 لإنجاز قراءة علمية لما حدث في يناير ٢٠١١ يتصل بتعيين المتغيرات المستقلة والمتغيرات التابعة ووصف العلاقات بينها وعزل أو تحييد باقي المتغيرات..وهو أصعب الضوابط تحقيقا في دراسة الظواهر الاجتماعية/ التاريخية ذات الطبيعة المعقدة.. فما هو داخلي من أسباب تتعلق بغياب العدالة الاجتماعية والحرية يصعب فصله عما هو إقليمي يتصل بأهداف الأطراف الفاعلين ومصالحهم ووضعياتهم الجيوسياسية، وعما هو دولي يتصل بعلاقات القوى العظمى ومناطق نفوذها وتصوراتها لطبيعة الأنظمة الداخلية التي تريدها حليفة لها..الأمر الذي يدفع في اتجاه وصف أفعال الأطراف الداخلية بالمؤامرة الكونية وينفي عنها استقلال إرادتها. إن قراءة علمية موضوعية لما حدث في يناير ٢٠١١ بعيدا عن المكايدة والرغبة في الاختطاف والقفز على الحقائق .. كفيل بأن ينير الطريق وينير العقول والضمائر من قبلها بدلا من إعادة إنتاج عوامل وأسباب جديدة لتكرار ماحدث

(٢) منظور نظريات الفعل الاجتماعي

في المقال السابق أوردت ضوابط منهجية أربعة للقراءة العلمية لما حدث في يناير ٢٠١١، منها اختيار النظرية العلمية المناسبة لدراسة الظاهرة، وبالرغم من كون الحدث محل الدراسة يخرج عن طبيعة الظواهر التي تنجح في وصفها مجموعة نظريات الفعل الاجتماعي sicial action thearies ذات الظهير الفلسفي البرجماتي، وينتمي على العكس إلى تلك الظواهر الصراعية التي تنجح في تفسيرها مجموعة نظريات البنية social structure thearies ذات الظهير الماركسي، فقد عقدت العزم في هذا المقال على خوض التجربة ومحاولة الوصف انطلاقا من مقولات نظريات الفعل تلك:

وفقا للكاتب ( إيان كريب) 

فإن أفراد المجتمع الفاعلين يبنون مجتمعاتهم بأفعالهم لتلبية احتياجاتهم المادية منها والمعنوية، وتتنوع تلك الأفعال بين أفعال صريحة وأخرى رمزية، متخذين من نموذج النظام الطبيعي natural system كما في الخلية الحية والذرة وغيرها معيارا لكمال المجتمع واتزانه، بحيث يصبح الاستقرار هو القاعدة والتغير هو الاستثناء. ففي البنائية الوظيفة يبني أفراد المجتمع النظم المتعددة (النظم السياسية والاقتصادية والتعليمية والتشريعية..الخ) لتؤدي الوظائف المحددة بشكل تكاملي، وكلما استجدت وظائف أخرى بفعل تطور الاحتياجات استحدثت النظم البديلة والجديدة لتأديتها، وكلما انخفضت فاعلية النظام أو اعتراه العطب أو الانحراف، استحق فعل التغيير، والذي بدوره يأتي متراكما تدريجيا حتى بلوغ نقطة التحول.

ووفقاً لذلك :

 يعد ما حدث في يناير ٢٠١١ نقطة تحول (طبيعية) بفعل تراكم الإخفاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي حققها النظام الحاكم على مدى عقود بالرغم من مؤشرات نجاحه الظاهرية المدعمة بالارقام والمعدلات الموثقة، وما هي إلا ملابسات تفصيلية مواتية حتى تداعى تحت ( الضغط) من بعض الأطراف الفاعلة ذات الزخم.. وما لبثت تلك الأطراف وغيرها تحاول استحداث نظام بديل ناجع لتأدية تلك الوظائف حتى تجلى ما بينها من اختلاف عميق حول (نسق القيم المحوري) الضامن لاستعادة الاستقرار والتوازن من جديد.

والقانون الطبيعي المستخلص من منطق التغيير

 وفقا لهذه النظرية هو أن نقطة التحول تلك تظل متوقعة دوما كلما توافرت شروطها الموضوعية من إخفاق النظام أو فساده أو عجزه مهما حاول  النظام إرجاءها أو تجاهلها. ومن منظور النظرية التفاعلية الرمزية حيث يسعى أفراد المجتمع بأفعالهم الرمزية ذات الدلالة إلى إرساء المعاني المشتركة التي تحقق ( التفاهم) بينهم من خلال اشكال التفاعل الاجتماعي المتعددة، والتي يقع الحوار والتفاوض في القلب منها، فإذا ما انسدت قنوات الحوار الاجتماعي تلك، وتمسكت النخب الحاكمة بما تعتقد في صدقه وملاءمته من المعاني وحاولت فرضها على بقية الأطراف الفاعلة، اصبح فعل التغيير مستحقا لاستعادة التفاهم المفقود.

التفاعل الإجتماعى .

ووفقا لتلك النظرية فإن طرفا واحدا احتكر عملية إرساء المعاني الضابطة لحركة التفاعل الاجتماعي واتجاهاته وحدوده لعقود طويلة، وتعمد مصادرة أو إعاقة حقوق باقي الأطراف في المشاركة بمعانيها التي ترى وجاهتها وملاءمتها، ما دفع بها إلى الانفجار في التعبير عما تعتقده، ومحاولة ممارسة الحوار العام خارج القنوات المسدودة. 

والقانون الطبيعي :

 المستخلص من هذه النظرية أيضا أن تفاهم أطراف المجتمع حول المعاني العامة المشتركة يشبه انحدار الماء بقوة، وتجاوزه لأية عوائق، بل وتحطيمها أحيانا لبلوغ نقطة الاتزان في منسوبه، وأن غياب المعاني العامة (المشتركة) أو احتكارها أمر مؤقت إلى حين. هكذا تصف نظريات الفعل الاجتماعي ذات الظهير البرجماتي ما حدث في يناير، انطلاقا من تصورها الطبيعي للنظام الاجتماعي..أما كيف يمكن تفسير وتأويل ماحدث..فهذا ما تنجح في تحقيقه نظريات البنية.

(٣) منظور نظريات البنية

في المقال الاول من هذه السلسلة ذكرت أربعة ضوابط منهجية للقراءة العلمية لما حدث في يناير ٢٠١١، وفي المقال الثاني استعرضت وصف ما حدث من منظور نظريات الفعل الاجتماعي، وفي هذا المقال أحاول إيجاز تفسير الحدث وتأويله من منظور نظريات البنية. والبنية هي نسق متماسك حاكم وموجه من الوضعيات المادية ( مثل التكوينات الاجتماعية من طبقات وطوائف وعرقيات و الأنشطة الاقتصادية وطبيعة البيئة وتقسيمات العمل..) أو من الافكار  المتسقة منطقيا وفق سردية معينة ( مثل المذاهب الدينية والعقائد  والايديولوجيات ..الخ) تتشكل حياة الأفراد في المجتمعات وطرائق تنظيمها تحت أسرها وتأثيرها.

المجتمع وصراع الايديولوجيات .

ففي الماركسية يتشكل وعي أفراد المجتمع وفقا لطبيعة مواقعهم الطبقية ومواضعهم من تقسيمات العمل والثروة، فيتبنى كل منهم أيديولوجية جماعته وينافح عن مصالحها، ويتطور المجتمع بفعل تناقض وصراع الأيديولوجيات فيه.. وما حدث في يناير ٢٠١١ وفقا لهذا التصور هو محاولة من محاولات حسم الصراع من قبل طيف واسع من أبناء الشرائح الدنيا تحالفت معها طلائع ثورية من المثقفين الشباب بالأساس بعضهم من شرائح عليا ووسطى، وبعض الفئات من السياسيين وجماعات الاسلام السياسي ضد طبقة مستحدثة من المنتفعين من تزاوج راس المال والسلطة التي أوغلت في انتهاك الحريات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأمعنت في تعميق التفاوتات.

الطبقه الاوليجاركية !

ولم تنجح هذه المحاولة في رفع التناقض مع أيديولوجية الطبقة الاوليجاركية الحاكمة، بل استبدلت بها مؤقتا أيديولوجية ثيوقراطية معدلة لجماعات الاسلام السياسي سرعان ما تم إسقاطها في ملابسات مغايرة، بسبب افتقاد المتحالفين الثائرين لإطار أيديولوجي وتنظيمي يجمعهم. ووفقا للنظرية البنيوية والماركسية البنيوية فقد نجحت الاوليجاركية الحاكمة قبل يناير في إرساء منظومة الفساد المستندة إلى توليفة من القيم النفعية والقيم الرجعية، واستطاعت من خلال الاجهزة الأيديولوجية للدولة ومنابر جماعات الإسلام السياسي المتحالفة معها ضمنيا أن تحقق مغانم هائلة على حساب السواد الأعظم من المهمشين المغيبين، بيد أن منسوب الظلم الاجتماعي والاقتصادي والتلاعب الفج في الممارسة السياسية تجاوز تأثير التهويمات الإعلامية والدينية، وساعدت وسائط التواصل المستحدثة في إيجاد مساحات موازية لايقاظ الوعي وتعميقه، فانفجرت الدمى التي أريد لها تظل مغيبة محاولة تحطيم قيودها.

التصور الأجرائى الجامع .

وأيضا لم تفلح هذه المحاولة بسبب تجذر البنى المحافظة الهجين المدجنة الراكنة  إلى السكون، وتفاهم الأيديولوجيات الثيوقراطية المؤهلة تنظيميا لاعتلاء المشهد مع الاوليجاركية المزاحة المرتبكة الى حين، وافتقار الجموع الثائرة للتصور الإجرائي الجامع بالرغم من اتقاد وعيها وحماسها. ولاشك أن منظور البنية ينبئنا بمقدار الصعوبة التي تكتنف عمليات التحول والإزاحة التي تتضمنها الثورات الاجتماعية، وكيف أن تجذر البنى المحافظة والبنى الاوليجاركية المتحالفة معها والمستفيدة من بقائها أمر  يستعصي على التفكيك والتغيير، ما يجعل المشوار طويلا.

وأخيرا.. 

وبعد هذه المحاولة المنهجية لقراءة ماحدث في يناير ٢٠١١ من مناظير نظريات علم الاجتماع المختلفة، ترى هل يمكننا وصف الوضع القائم الآن في مصر، والتنبؤ بما قد يؤدي إليه في المستقبل القريب والمتوسط؟.. هذا ما اتوقع من الزملاء والأصدقاء ، خاصة أهل التخصص منهم، أن يفكروا فيه

google-playkhamsatmostaqltradent