من ذكريات العمر: دقات القلب (5)
رأيت أخي الكبير يدخن سيجارة خلسة، فراودتني النوازع الشريرة أن أشي به لأبي حتي يمنع عنه المصروف إنتقاما لسخريته الدائمة مني، لكن يبدو أنه قرأ في عيني الأفكار الشيطانية فحاول إرضائي قائلا: "خليك حلو وجدع وأنا أسيبك تشوفها من غير أبوك ما يحس، أنا عرفت أنها في سنة تانية بمدرسة الإعدادية بنات، روح إستناها هناك".. ذهبت بعد أن هربت من الحصة الأخيرة وظللت واقفا حتي خرج من باب مدرستها حشد كبير من الصبيات بملابسهن المدرسية الموحدة..بحثت عنها بينهن بلهفة :
إلي أن لمحتها فشعرت بخفقة في قلبي.. حرصت ألا تغيب عن عينىّ وبدأت أتتبعها بعد أن افترقت عن زميلاتها.. شعرت هي بوقع خطواتى فتوقفت ونظرت نحوي بدهشة لكنها بعد لحظات ابتسمت وقالت: "إفتكرتك إنت إشتريت من عندنا مرة بس ما جيتش تاني".. شجعتني ابتسامتها فزايلني الإحساس بالتوتر، لكن لم أصارحها بأنني كنت أنتظرها خوفا أن تظنني مثل الصبيان الذين يقفون أمام مدارس البنات لمضايقتهن، وقلت لها: "أنا في أولي إعدادي ومش فاهم حاجة في مسائل كتاب الهندسة ممكن تساعديني أحلها"..
قالت بنفس الابتسامة الساحرة:
"مقدرش أتأخر لأنو أبويا عيان ومش بسيبه لوحده، وأمي مهدودة بتصحي الفجر عشان تنزل تبيع الفول، وبعدين بتعمل شغل البيت، تعالي ذاكر معايا في بيتنا وتتعرف عليهم".. رغم مخاطرة تأخري بلا سبب عن العودة إلي منزلي، الا أنني شعرت وكأنني في حلم أخاف أن يتبدد فوافقت فورا.. مشينا معا إلي بيتهم والذي كان قديما بسيطا وسلالمه متهالكة.. فتحت لنا والدتها الباب، فأخبرتها: "ده زميلي وجارنا حيذاكر معايا"..
رحبت الأم بي كثيرا وقالت:
إيمان بنت شاطرة وذكية، ثم ذهبت لتصنع لنا الشاي وهي تنظر نحونا بسعادة وكانها تبارك صداقتنا، وكان الأب راقدا علي السرير في إحدي الغرف، وحيَّاني بإيماءة صامتة فلسانه كان ثقيلا.. جلسنا متجاورين حول طبلية صغيرة في الصالة، وبدأت تشرح لي مسائل الهندسة بصوت هامس رقيق فانتابتني لحظتها رغبة قوية في تقبيلها وضمها فلا أحد يرانا، لكن نداء بداخلي قاوم ذلك وأصر ألا أمسها..
قلت لها:
لما أبويا منعني أشتري الفول عييت لأني إفتكرت مش حاشوفك تاني"، ردت بخجل شديد: "إنت عايز تقول إيه يعني".. ثم تحدثنا كثيرا، ولم أدر بالوقت إلا والمساء قد حل علينا، فانتابني ذعر شديد ماذا أقول لأبي وأمي عتدما يسألوني لماذا تأخرت؟ وأين كنت؟، فلو علموا أنني كنت في بيت إبنة بائع الفول طوال هذا الوقت والتي حذروني من رؤيتها ستكون ليلة غبراء قد تشبه تلك الليلة التي لا أنساها ما حييت..
فذات منتصف ليلة :
استيقظ شارعنا علي زعيق وصراخ.. بعدها فتحت النوافذ الموصدة وأطل الجيران نحو مصدر الأصوات.. كان بعض الرجال والسيدات يقفون أسفل منزل "توفيق بك" الملاصق لنا، ورأيناهم يشدونه من ملابسه بعنف، ويصيحون بصوت مرتفع: "حنفرج عليك اللي يسوي واللي ما يسواش، إشهدوا يا ناس الراجل ده اللي متجوز ومخلف بيلف علي البنات اللي قد ولاده ويضحك عليهم وعايز (كلمة قبيحة) في الحرام"..
وشاهدنا فتاة في العشرينيات !!
من العمر تصرخ في وجهه: "يا راجل يا عايب يا دون، تاخدني لحم وعايز ترميني عضم فاكرني ساهلة ولا بنات الناس لعبة معاك، طب أنا جيت هنا عشان أفضحك مع مراتك وجيرانك ولسة كمان في شغلك".. ثم وجدنا "سعاد هانم" زوجة جارنا "توفيق بك" قد هبطت إلي الشارع بملابس المنزل وهي مرتعبة وجسدها ينتفض، وتنظر لما يحدث ببلاهة وتصرخ بهستيريا: مستحيل.. إيه اللي بيحصل وبيتقال ده!!.. ثم سقطت فاقدة الوعي..